الأخبار

التنمية البشرية في الصحراء… الحقائق المجهولة

حين قرأت قراري البرلمانيين الأوربي والإسباني حول أحداث العيون الأخيرة، ما استفزني أكثر هو البند القائل بضرورة توزيع ثروات الصحراء على السكان المحليين، لا لأن البنود الأخرى لم تكن جائرة ولكن لأن هذا البند يظهر مدى جهل جيراننا البرلمانيين في إسبانيا وفي أوروبا لواقع الأمور على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى التنمية البشرية في الأقاليم الصحراوية. كلنا يعرف أن الصحراء عرفت نهضة تنموية جبارة ولكن معرفتنا كانت فقط مبنية على الملاحظة المجردة.
في 2008، قام إيمانويل دو كاستولي، الخبير الاقتصادي والممثل السابق لصندوق الأمم المتحدة للتنمية بالمغرب، بدراسة سماها “تقرير حول التنمية البشرية في أقاليم الجنوب: المكتسبات والآفاق المستقبلية” وهي دراسة إن اطلع عليها من أصدروا القرارين السابقين لتأكدت لهم صحة اتهام الشعب المغربي لهم بأنهم لا يفهمون ما يقولون أو يقولون ما لا يفهمون.
في 1975، كان حوالي “50% من السكان الصحراويين يعيشون تحت عتبة الفقر” يقول تقرير كاسترلي، بينما كانت الأمية ضاربة بجذورها في أوساط الساكنة ولم يكن مؤشر التنمية يتعدى 0.408 “وهو مستوى أدنى مما كان سائدا في باقي أنحاء المغرب”. هذا هو الواقع الذي تركته إسبانيا (التي يحن البعض من المتطرفين في أوساط الحزب الشعبي والبوليساريو إلى مجدها الكولونيالي الغابر في الصحراء). تحت السيادة المغربية، وبحلول سنة، 2004 صار “مستوى المعيشة ضعفي ما كان عليه في 1984” وانتقل معدل الفقر من 29% (من أعلى المستويات في المغرب) إلى 9،8% “أي أدنى مستوى للفقر على المستوى الوطني”. هذا يعني أن الدولة المغربية سلكت سياسة إرادية لتنمية الصحراء لا مثيل لها إلا في الدول المتقدمة وأن هذا النموذج أصبح صالحا الآن لأن يعمم على مختلف المناطق الأخرى. وهذا يعني أن ما أورده القراران اللذان أصدرهما البرلمانان الأوروبي والإسباني بشأن استغلال خيرات الصحراء من طرف أبنائها لا يستند إلى أية معطيات بل ومجانب للواقع. كيف لبرلمانيين المفروض فيهم أنهم يبنوا قراراتهم على حقائق واقعية أن يصدروا قرارات بهذه السذاجة العلمية والمعرفية؟
بالإضافة إلى هذا، وحسب تقرير دوكاسترلي دائما، فإن “مساهمة هذه المناطق في خلق الثروات على المستوى الوطني يصل ومنذ 2004 إلى 4% من الإنتاج الوطني” ولكن على مستوى التشغيل، “فإن هذه المنطقة تنال 6% من مجموع مناصب الشغل التي يتم خلقها في المغرب” وهاتين النسبتين يتعين مقارنتها بتعداد الساكنة المحلية التي لا تمثل إلا 2،7% من مجموع ساكنة المغرب في 2004، ٍحسب تقرير الخبير الاقتصادي الدولي. هذا يعني أن ساكنة الصحراء تستفيد على مستوى التشغيل بـ 33% أكثر مما تنتجه وبضعف ما تستفيده مناطق أخرى بنفس عدد السكان. إن السياسة التنموية والإرادية المتبعة لحد الآن أعطت هذه النتائج الإيجابية التي لا يجب أن تغيب عن أحد. وهذا ما يجعل بعض التقارير الصحفية التي رافقت أحداث العيون وما بعدها، والتي تتحدث عن معاناة اقتصادية واجتماعية، مغلوطة من الأساس. إن نظام الحكامة الترابية الذي لم يعتمد الإنصات وحسن المعالجة هو الذي خلق الإحباط عند البعض ولكن الأرقام تدل على عناية كبيرة في ميدان التشغيل.
أما على مستوى التجهيزات الأساسية، فالصورة هنا كذلك أكثر من دالة. كل أقاليم الجنوب تتمتع بنسبة “ولوج إلى الماء الصالح تتعدى المتوسط الوطني (57،7%)”، أما الكهرباء، فإن نسبة “التغطية يختلف من 93،2% في العيون إلى 75،9% في أو سرد” وهي نسب تتعدى المتوسط الوطني (%71،6). هذا باستثناء إقليم طاطا الذي بلغت “نسبته من الكهربة (70،1%) أي دون المعدل الوطني”. لا نجد خصاصا إلا على مستوى صرف المياه، حيث أن جهتي واد الذهب الكويرة- كلميم- السمارة، يعرفان نسبة 24،4% للأولى و%28،4 للثانية وهي نسب دون معدل النسبة الوطنية أي 48،6% وهذا لا ينطبق على العيون-بوجدور-الساقية الحمراء التي تعرف نسبة صرف للمياه مرتفعة على المعدل الوطني (أي 50،1%).
أما بالنسبة للولوج لخدمات الهاتف النقال فإن الجهات الثلاث تتمتع بنسبة مرتفعة على المستوى الوطني في 2004: “بينما نرى أن المعدل الوطني لمن يملك هاتفا نقالا كان هو 60،6” في 2004، فإن هذه النسبة بلغت 72،8% في العيون-بوجدور-الساقية الحمراء و66،2 في جهة وادي الذهب – الكويرة و62% في جهة كلميم-السمارة.
إذا على مستوى التجهيزات الأساسية نرى كذلك كيف أن الأقاليم الجنوبية تشكل قاطرة للتنمية لا تضاهيها إلا جهات مثل الدار البيضاء الكبرى والرباط-سلا- زمور- زعير وهو أمر يعني نسبة استقرار مرتفعة وولوج مرتفع لخدمات من شانها أن ترفع من مستوى معيشة السكان. من خربوا وحرقوا في العيون بإيعاز من البوليساريو والجزائر كانوا يحاولون الإجهاز على هذه المجهودات. فالجمع بين المطالب الاجتماعية والسياسية كان حلم طالما راود قادة البوليساريو، لكن حكمة المغرب هو أنه جعل من التنمية في الصحراء أولى الأولويات مما جعل مدنا مثل العيون ببناها التحتية ومعمارها واقتصادها وشوارعها كابوسا وجب تدميره بتوظيف أيادي إجرامية سخرت لذاك الغرض يوم 8 نونبر.
وحسب دو كاسترلي، وعلى مستوى الولوج إلى التربية والمعرفة، فإن حوالي 78% لم يكن لهم أي مستوى دراسي إبان الاستعمار الإسباني، بينما 5،9% كان لهم مستوى المدرسة القرآنية و15% مستوى دراسي ولكن 40% من هؤلاء لم يتعدوا المستوى الابتدائي. المتطرفون الإسبان الذين قالوا بان إسبانيا أخطأت حين وقعت اتفاقيات مدريد، هل كانوا يريدون أن يستمروا في تجهيل الساكنة الصحراوية؟ أدعوهم فقط لينظروا ما فعله المغرب حيث أن نسبة أرباب البيوت الأميين انخفضت إلى 50،6% وهي نسبة أحسن بكثير من المعدل الوطني، (أي 66،1%). يضيف كاتب التقرير، بأن “نسبة التمدرس في جهات الجنوب وصلت إلى 77،5” وهي نسبة تتجاوز ما يقع في كل الجهات ما عدا الدار البيضاء الكبرى (84.00%) والرباط سلا زمور زعير (78،9).
هذه وأمثلة عديدة وردت بشكل أكثر تفصيلا تُظهر وبصورة لا غبار عليها كيف أن أقاليم الصحراء عرفت نهضة تنموية بشرية فريدة، وربما مثال يجب أن يحتدى به في أقاليم ومناطق أخرى. نعم هناك اقتصاد الريع والإعفاء الضريبي وهي مسائل من المفترض فيها أن تزول في إطار مقاربة جديدة للشأن الصحراوي. ولكننا لا يمكن أن نقبل أن يمرر علينا برلمانيون من المفترض فيهم أنهم على دراسة ومعرفة قرارا يطالب باستفادة سكان الصحراء من خيراتها. لقد ضحى المغاربة من أجل أن يتم إنقاذ الصحراء من براثين الجهل والفقر ولا يمكن لأي كان أن يلقننا دروسا في التنمية البشرية في هذه المناطق خصوصا أولئك الذين يجهلون الواقع بل ما يهمهم هو أن يصدروا موقفا ضد المغرب.
أتحداهم أن يأتوا بمثال لمنطقة تمكنت فيها دولة في طريق النمو أن تعكس واقع التنمية البشرية رأسا على عقب خلال أقل من ثلاثة عقود من الزمن. لا أظن أنهم سيقدرون، ولذا فعلينا أن نرد عليهم بالأرقام، والأرقام كما يقول الإحصائيون هي عنيدة، لأن الواقع عنيد كذلك. وواقع الصحراء هو تنمية بشرية قوية ومضطردة قام بها المغرب لوحده، لأنه لعلم الفضلاء البرلمانيين الأوربيين والإسبان، فتمويلات التنمية الدولية للمغرب تستثنى دائما الساكنة الصحراوية وكأن هؤلاء بفعل وجودهم تحت السيادة المغربية ليست لهم حاجيات في الصحة والتعليم والتنمية الاقتصادية. على البرلمانيين الأوربيين والإسبان أن ينتقدوا حكوماتهم ووكالات التنمية الأوربية والدولية التي قاطعت مسلسل تنمية الصحراء لا أن يعطوا الدروس للمغرب الذي نمى المنطقة بدون مساعدة من أحد.

لحسن حداد (*)

(*)خبير في الدراسات الإستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى